
عابراً هذا الصباح في شارع محمد الخامس بالرباط، جذبتني للمرة الألف واجهة مبنى “التلغراف، البريد والتليفون،” تلك التحفة الواقفةُ شاهدةً على زمن كان فيه للأشياء معنى.
مبنى عتيق لكنه أنيق، يروي قصصاً من تاريخٍ كان فيه للبريد عبق الورق، وللهاتف قدسية الانتظار. متأملا هذه البناية، بدت لي كأنها تصرُّ على الصمود، تتأقلم مع العصر دون أن تنسلخ عن ماضيها، ترفض الموت في زمنٍ ماتت فيه التفاصيل، وبهت فيه الجمال.
قديما، كانت للبريد قداسته إذ كان ملموساً. كان الورق يحتضن الحبر بلهفة عاشقٍ يخطُّ حروفه بقلبه لا بأنامله، وكانت الرسائل حينها تحمل رائحة اليد التي خطّتها، وأثراً من نبض القلب الذي نزفها، وكلماتٍ لا يمحوها الزمن ولا المسافات.
قديما، كان للهاتف طعمه الخاص أيضا. ثابتٌ كالوعد، لا يتبعنا حيث نذهب. في زاوية من المنزل، عند الجيران، أو في مخدعٍ عمومي، كانت السماعة أنيقة حقا، تتشارك فيها القلوب والأرواح. كانت المكالمة حدثاً نادراً، مختصراً، تماماً كنبضة حياة نقول فيها كل شيء دون أن نُثقل، ونترك خلفنا صدىً طاهراً في ذاكرة من نحب.
اليوم، تغير كل شيء. الهواتف أضحت ظلالنا، تلاحقنا حيثما ذهبنا، نُثقل بها جيوبنا وأرواحنا. نُحادث الجميع دون أن نراهم، ونخدع أنفسنا بأن مكالمة مع البعيدين تكفي. ناسين أن اللقاء، وجهٌ يحمل عبق الحضور، وصمتٌ يفيض بأكثر مما يمكن للكلمات أن تقوله.
الهاتف اليوم ليس هو التيليفون؛ عالم كامل يحمل كل شيء ويأخذ منا كل شيء. يُثقلنا بالتفاهات وسط الزحام، ويُلقى بنا في وحدةٍ صاخبة، وغربةٍ لم يعرفها آباؤنا وأجدادنا.
في غمرة هذه التأملات، أجدني غارقاً في الحنين. أكتب عنه كمن يحاول القبض على ظلٍّ هارب. هل شخت؟ ربما. أو كما نقول بلهجتنا المغربية: “شْرفتْ”. 😁




