
في المقهى المعلوم، يأوي إلى ركن “استراتيجي” ككل صباح. يجلس وعلى طاولته كأس قهوة تفوح برائحة الحياة. فجاة، تسقط في فنجانه ذبابة كأنها قدر صغير. ينظر إليها باشمئزاز، كما لو أن العالم كله تآمر عليه في تلك اللحظة. يهمس لنفسه أنها وإن كانت مجرد حشرة تافهة، إلا أنها قادرة على إفساد كل شيء.
يمضي متسائلا؛ كيف لهذه الحقيرة أن تختار هذا المكان تحديدًا؟ كيف لها أن تنتحر هنا، أمامي، في قهوتي، وفي هذا الصباح الجميل؟. يفكر بغضب في كل هذا العبث، ويرى أن الأقدار كلها تشبه هذه الذبابة، تسقط في أشهى ما لدينا، فتلوّثه، وتحوّله من متعةٍ إلى ترددٍ واشمئزاز.
ما الفرق بين فنجان القهوة هذا، والعمر الذي نقضيه محاولين تنظيف أرواحنا مما يلوّثها؟ يتساءل. يفكر للحظة أن يتجاهل الأمر. أن يُخرج الذبابة برفق، ويرتشف قهوته كأن شيئًا لم يكن. لكنه سرعان ما يقنع نفسه أن هذا مستحيل. أن التلوث واقع، حتى لو لم نره بالعين المجردة.
يواصل نقاشه الداخلي. أليس كل شيء حولنا ملوثًا أصلاً؟ الهواء، الماء، الكلمات، بل حتى الأحلام؟ ألسنا نأكل أشياء مجهولة المصدر، ونشرب مما تَعِبت المصانع في تلميعه وتزوير نقائه؟ إذن، لماذا أهاب ذبابة سقطت في قهوتي، أنا الذي اعتدت ابتلاع مرارة أكبر منها؟ أم أنني ككل البشر، لا أخاف مما لا أراه، لكنني أرتعب مما تراه عيناي العاريتان؟
يفيق من جداله الداخلي على صوت متشرد يطلب رشفةً من قهوته. يبتسم له بسخرية. ها هو ذا رجل لا يكترث، لن يسأل عن الذبابة، عن التلوث، عن أي شيء. الحياة في تصوره لا تتجاوز ما يوجد في الكأس، وما بعد ذلك فراغٌ آخر. يناوله الفنجان بحذر ويقول له: “اشربها كلها.”
يشرب المتشرد القهوة كأنها معجزةٌ نزلت من السماء. يرتشفها حتى آخر قطرة، ثم يغادر وهو يدعو لصاحبنا دعوة غامضة: “سقاك الله كأسا كهذه التي سقيتني.” يقف صديقنا حائرًا بين أن يبتسم أو أن يغضب، بين أن يقول “آمين” أو أن يلعن الذبابة مجددًا. لكن شيئًا في داخله يخبره أن التي سقطت في فنجانه لم تكن مجرد ذبابة، وأن القدر يَسقط أحيانًا في فناجيننا، لا ليُفسد مذاقها، بل ليضعنا أمام أسئلتنا الأعمق، تلك التي لا إجابة لها.




