
في سيارتي، يتسلل صوت مارسيل خليفة كوَشْوَشَة حنينٍ مباغتة، يردد بلحنٍ يلامس القلب: “أحن إلى خبز أمي”، فإذا بصوته يأخذني في رحلة عبر الزمن، يعود بي إلى خبز أمي، يُريني يديها تُخرجان الأرغفة من الفرن التقليدي بحذرٍ، ويكشف لي كيف كان في كل رغيفٍ دفءُ حبٍ صامت، لا تصفه الكلمات.
مسافرا في الزمان وفي المكان، أفكر كيف أن الخبز في المغرب ليس مجرد طعام يسدّ الرمق، بل قصةً تختزن ذاكرة الأرض وعَرق الجبين. رغيف بسيط، يحكي سيرة أجيال، يربطنا بجذورنا القديمة، ويذكّرنا أن العيش يبدأ عندنا من حبة قمح.
الخبز عندنا مقدّس. نراه ملقى على الطريق، فننحني كما لو أننا نركع لنعمة لا نجرؤ على تجاهلها. نحمله برفق، نُقبّله، ثم نزيحه عن موطئ الأقدام كأننا نحمي ما تبقى من كرامة الأرض. الخبز ذاكرة جماعية، يلمّ شتاتنا حين تفرقنا الأيام، ويبقى شاهدًا على صمودنا حين تهجرنا كل الأشياء.
في انتظاره على النار، يعلّمنا الخبز درس الصبر، وفي مشاركته على المائدة، يذكّرنا بالتواضع ويلقّننا العطاء، ومهما بدت أحلامنا شاهقة، نعود إليه لنجد فيه قوام الحياة؛ الحدَّ الأدنى الذي تتساوى عنده كل الرغبات.
الخبز عندي هو وجه أمي. خبزها كان دعاءً صامتًا تهمس به يداها، تخلط الماء بالدقيق كأنها تخبز لنا عمرًا جديدًا.
خبزها كان وصيةً، رسالةً تخبرنا أن الكدح من أجل البقاء ليس مجرد قدر، بل جزءاً من هويتنا، وأن الأرض التي نعيش عليها تمنحنا، في كرمها البسيط، ما يكفينا لنواصل الطريق.
أفكر في الخبز، فأرى الأرض. أفكر في الأرض، فأرى أمي. وكأن كل الطرق، مهما ابتعدت، تعيدني إلى نقطة البداية: إلى ذلك الرغيف الأول، الحامل لطعم البراءة، ورائحة السكينة، ومذاق الحب الذي لا يعادله شيء آخر.




