كثرة المعلومات تقتل المعلومة

كثرة المعلومات

كعادتي كل يوم، لا يمر وقت دون أن يجرفني في بعضِِ من لحظاته تيار الفضول ليلقي بي في بحر الشبكات الاجتماعية تارة، وعلى ضفاف الجرائد الإلكترونية تارة أخرى. في الأسبوع الماضي مثلا، شعرت في أحد المساءات بالملل، فامتطيت صهوة النت، وأبحرت بفضول طفولي في عالم الأخبار المتناثرة هنا وهناك. لحظتَها، كنت عازما على إلقاء نظرات خاطفة على جديد أنباء المغرب والعالم، وعلى أحوال الأصدقاء و”الأعداء” أيضا.

في خضم هذه الرحلة اليومية العادية، نظرت إلى ساعتي، وانتبهت فجأة كمن تعرض لصفعة قوية لا يدري من أين أتته، ولسان حالي يقول على طريقة أحد مشاهير تيكتوك : “فين غادي؟ فين أنا غادي؟” وقبل أن أفتح فاهي بالإجابة عن هذا السؤال الاستنكاري المضحك المُبكي، تلعثمت كلماتي وتشتَّت تركيزي من كثرة العناوين الفارغة والروابط الخادعة التي تصفحتها دون أن أشعر، والتي قادتني إلى وجهات لم أطلبها، وغياهب لم أقصدها، أنا الذي كانت نيتي الأولى، مطالعة نزر يسير من الأخبار والمعلومات، ليس إلا.

ولأن الأمر جلل كما يبدو، أوقفت رحلة الإبحار الإلكترونية الطويلة هذه على الفور، دون أن يتوقف تفكيري عن العمل، ودون أن تكف مادتي الرمادية عن الاشتغال بالتأمل والتفكير وطرح السؤال تلو السؤال. لحظتها، وبـرد فعل فوري وعصبي، أغلقت حاسوبي المخبول بعنف ودفعته بعيدا، ثم أتبعته بهاتفي الغبي، وكلي عزم على الانعتاق من خيوط شبكة عنكبوتية ماكرة، ترفض إلا أن تحيط بي من كل جانب، وتأبى إلا أن تطوق فضولي الضعيف بأدوات ظاهرها هش، وباطنها أقوى من أذرع الأخطبوط.

فركت جبهتي من شدة التعب الذي أصابني به سيل العناوين والأخبار التي راودتني عن نفسي، وتأسفت لمآل رحلة استكشاف أردتُها قصيرة فتحولت بفعل فاعل إلى سفر قسري يكاد لا ينتهي. وبينما كنت استعرض في مخيلتي، دون أن أشعر، لمحات من هذا السفر المزدحم الصاخب، تأكدت كمن كشف لغزا مستعصيا، أن المعلومة كما النار وكما الماء، يمكنها أن تحرقنا أو تغرقنا إن نحن أخذنا منها فوق كفايتنا. وعلى غرار المقولة الشهيرة لأصدقائنا الاقتصاديين: “كثرة الضرائب تقتل الضرائب،” قلت لنفسي هامسا: “وكثرة المعلومات تقتل المعلومة حتما.”

وقبل أن أخرج من هذا الجو الغامق والزحام الخانق، رسمت على شفتيَّ ابتسامة سخرية من زمن أضحت فيه وفرة المعلومة داءََ لا دواءََ، وأصبح فيه الفضاء الرقمي بمثابة حرب بلا هوادة، على أبوبها من جهة، عناوين تخدعك من حيث لا تدري، وتلعب على وتر فضولك وأنت تدري، حتى إذا اقتربت منها واقتحمتها، ولَّيت منها فرارا. وعلى ساحاتها من جهة أخرى، روابط جذابة نُصبت كالفخاخ، كلما دُسْتَ على أحدها، قادك إلى غيره، في حلقة مفرغة فارغة تكاد لا تنتهي.

ما رأيك في هذا الموضوع؟

Similar Posts